بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله.
قرأت فتوى للشيخ محمد بن صالح العثيمين، يقول فيها:
"إنه في عصرنا الحاضر يتعذر القيام بالجهاد في سبيل الله بالسيف ونحوه، لضعف المسلمين ماديا ومعنويا وعدم إتيانهم بأسباب النصر الحقيقية، ولأجل دخولهم في المواثيق والعهود الدولية، فلم يبق إلا الجهاد بالدعوة إلى الله على بصيرة." (مجموع فتاوى بن عثيمين 18/388)
فكان شعوري مزيجا من الخيبة والاستغراب لما قرأت؛ فقد تضمنت هذه الفتوى - على قصرها - مغالطات كبيرة وخطيرة، سأجملها في النقاط التالية:
أولا: قوله "إنه في عصرنا الحاضر يتعذر القيام بالجهاد في سبيل الله بالسيف ونحوه..." قول غريب يعارض نصوص الكتاب والسنة الحاثة على ديمومة الجهاد إلى قيام الساعة. فمن المعلوم أن نصوص القتال محكمة سارية الحكم ولم تنسخ؛ ولم يرد نص قرآني أو نبوي يستثني السيف أو غيره من وسائل مجاهدة الكفار؛ وليس هناك تحديد مكاني أو زماني للقيام بفرض الجهاد. فكيف لنا أن نعمل بقوله تعالى: "... وليجدوا فيكم غلظة.." وقوله "فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان"... إن لم تكن الغلظة وضرب الأعناق بالسلاح؟
ثانيا: قوله "لضعف المسلمين ماديا ومعنويا" مثير السخرية؛ فقد رزق الله بلاد المسلمين من الثروات والموارد المادية والبشرية، وقبل ذلك الإيمان، ما تحسدها عليه سائر الأمم. فعن أي ضعف مادي يتحدث الشيخ وأرصدة "ولاة الأمر" في بلده وسائر بلاد المسلمين تنوء بمصارف أمريكا وأوروبا؟ أي ضعف مادي وما ينفقه ولي أمره – فقط- على المجرمين (كالسيسي وجيش لبنان المتواطئ مع حزب اللات)، وعلى كرة القدم والمهرجانات وقنوات اللهو والطرب، وعلى الطائرات واليخوت الفارهة يكفي لإنقاذ جميع المسلمين الذين يتعرضون لمجازر يشيب لهولها الرضعان في أكثر من بلد؟
أما عن الضعف المعنوي فهو الآخر عذر فاسد ومردود – لسببين، الأول: أن في بلاد المسلمين الملايين من المتحمسين للجهاد في كل أرض يستباح فيها المسلمون، لكن حكوماتهم وقوانينها تمنعهم من الجهاد؛ والثاني: إن كان في الأمة من ضعف معنوي فسببه تخاذل أهل الحل والعقد وإخلادهم إلى الأرض. فكيف ينفر المسلمون للجهاد وهم محاصرون بين سجون حكامكم وتثبيط فتاويكم المبرمجة لصرف المسلمين عن القتال إلا إذا كان ضد أعداء أمريكا أو حلفائها؟
لماذا لم يصدر الشيخ العثيمين أو غيره من كبار علماء المملكة الرسميين مثل هذه الفتوى إبان جهاد الأفغان والشيشان الذي أيدوه وحرضوا المسلمين عليه بكل الوسائل؟ الجواب: لأن العدو الذي قاتله الأفغان والشيشان كان عدوا لأمريكا (الروس).
ثالثا: أما قوله ".. وعدم إتيانهم بأسباب النصر الحقيقية" فعذر أقبح من ذنب. فالجهاد فرض على الأمة، وما لا يتم الفرض إلا به فلا يمكن أن يكون اختياريا ليُتخَذ تركه عذرا. فلو أن سائلا سأل الشيخ: "حضرتني الصلاة ولم أصلّ لأني لم أتوضأ"؛ فهل يقره على عدم الصلاة بهذا العذر أم أنه سيسأله: "لماذا لم تتوضأ"؟
رابعا: أما قوله: " ولأجل دخولهم في المواثيق والعهود الدولية" فعذر أشنع وأقبح من جميع الأعذار السابقة. فأي مواثيق وعهود دولية يقصد الشيخ؟ هل يقصد اتفاقيات الاستسلام مع اليهود الذين يغتصبون مسرى رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟ أم اتفاقية الحماية بين حكومته وأمريكا التي تقضي بحماية أمريكا لعرش ولاة أمره مقابل تسخير كل مقدرات البلد لخدمة أمريكا ومشاريعها المعادية للإسلام والمسلمين؟
ومن قال إن مثل هذه المعاهدات جائزة شرعا لكي يقحمها الشيخ كمبرر لتعطيل الجهاد؟ وما هي سياقات وبنود هذه المعاهدات؟ إن كان يقصد مقارنتها بما عقده النبي (صلى الله عليه وسلم) من معاهدات مع المشركين (قريش ويهود المدينة) فقد كانت عن قوة وعزة وتمكين وفيها مصالح للإسلام؛ وكانت بوحي إلهي وليست لمأرب دنيوي، وبعد بذل الجهد وأداء الواجب الشرعي، وليس استسلاما وانبطاحا وبيعا للدين بالدنيا كما يفعل حكام اليوم. ولا أدري.. في أي دين أو قانون أو منطق يكون الاستسلام للعدو مبررا للانبطاح له؟
خامسا: يختم الشيخ فتواه بقوله:"... فلم يبق إلا الجهاد بالدعوة إلى الله على بصيرة." وهذا قول شنيع ولا يقنع إلا السذج والانبطاحيين. وقد توصل الشيخ إلى هذا الاستنتاج الفاسد بناءً على مبررات أفسد. فالدعوة إلى الله تكليف شرعي عام يناسب ظروف السلم والأمن؛ لكنه ليس بديلا لذروة سنام الإسلام الذي يصبح واجب الوقت عند تعرض المسلمين إلى اعتداء.
أما أن نتذرع بالانشغال بالدعوة في وقت تستباح فيه دماء المسلمين وأعراضهم ووجودهم فهذا ما لا يقول به عاقل غيور. ثم كيف يمكن ممارسة الدعوة في مكان يباد فيه المسلمون فيخلو منهم بسبب القتل أو التشريد أو الأسر كما يحدث اليوم في العراق وسوريا وغيرهما؟ هل يستطيع الشيخ العثيمين أو من يقول بقوله الذهاب إلى حلب أو الموصل أو بورما ليدعو الناس؟ وهل يريد من أهلها انتظاره - تحت قصف الطائرات ودوي الانفجارات ووابل الصواريخ والراجمات - لكي يشرح لهم "كتاب التوحيد" أو "الأربعون النووية"؟
ثم هب أن "الدعوة إلى الله على بصيرة" استمرت قرونا في بلد معين، فأصبح جميع أهلها حفّاظا لكتاب الله وجميع كتب الحديث والفقه والتفسير، ووصلوا إلى مرتبة الصحابة في التقوى والعلم، وهاجمتهم عصابات الروافض أو كتائب اليهود أو البوذيين مدججين بأحدث أسلحة الدمار، فكيف سيدافعون عن أنفسهم؟ هل يختبئون خلف جدار من المصاحف؟ أم يقذفونهم بمجلدات صحيح البخاري؟ أم يقرأون عليهم أحكام الحيض والنفاس فيردوهم على أعقابهم خاسرين؟
لقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إماما في العلم والدعوة والزهد، وعلى يديه تتلمذ أصحابه (رضي الله عنهم)؛ لكنهم إن نادى منادي الجهاد هبوا أسودا كاسرة لا تعرف الخوف أو الجبن. فقد كانوا يعطون القرآن حقه والسيف حقه؛ ولو أنهم اكتفوا بالدعوة والتربية دون السيف لما نشروا الإسلام ولا حموا عقيدتهم ولا عصموا دماءهم وممتلكاتهم وأعراضهم. لهذا يقول شيخ الإسلام بن تيمية: " قوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر".
الأصيرم بن عمرو بن ثابت- رضي الله عنه- استشهد في معركة أحد ولم يُصَلِّ لله صلاة قط، فقد "أسلم واشترك في المعركة مباشرة واستشهد؛ وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لمن أهل الجنة" (مسند أحمد). وكذلك الأسود الراعي - رضي الله عنه – الذي "أسلم يوم خيبر واشترك في القتال فقُتل وما سجد لله سجدة، فقال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - إن معه الآن زوجتيه من الحور العين." (السيرة النبوية – ابن اسحاق)
فهل اشترط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذين الصحابيين أن يدخلوا "دورات مكثفة" في العقيدة والتوحيد و"شهادة الجودة" في الدعوة والتربية قبل مقاتلة العدو؟ وهل قال لهما: "اذهبا وجاهدا بالدعوة إلى الله على بصيرة قبل التفكير في مقاتلة العدو؟"
إن هذه الفتوى وأمثالها تأتي ضمن جهد ممنهج ومبرمج لتفريغ الإسلام من كل جوانب العزة والقوة ليعيش المسلمون أذلاء ضعفاء يسهل على حكامهم تدجينهم وعلى أعدائهم تدميرهم – كما هو حاصل اليوم.
ملاحظات على هذه الفتوى وأمثالها:
أصحاب هذه الفتاوي المخذلة يتخذون من التقصير والتكاسل أعذارا للقعود ومد الرقاب لسيف العدو، ويتجاهلون الكم الكبير من نصوص الكتاب والسنة التي تحث على الجهاد والإعداد له وتبين ثمراته وعواقب تركه.
الدعوة والتربية التي يتذرعون بها (كبديل ناعم للجهاد) مقتصرة على المحكومين دون الحكام، فهم يريدون للشعوب المسلمة أن تتربى على العقيدة والتوحيد وولاة أمورها نائمون في أحضان الأعداء ويسلمون لهم البلاد والعباد!
تركز دعوات فقهاء السلطة على تربية المسلمين كأفراد - غاضين الطرف عن الجانب الجمعي (الأمة)؛ ويهتمون بالعبادات النظرية "السلمية" دون الاهتمام بقضايا الأمة المصيرية ونوازلها. يحتفون بالرقائق والروحانيات والجوانب الفرعية من الشريعة دون التركيز على مقاصدها، ولا يتطرقون لمفهوم الدولة والخلافة والقوة المادية. فهم يتجاهلون أن ديننا يحثنا على رص الصفوف في مواجهة العدو كما يحثنا على رص الصفوف في الصلاة؛ ويأمرنا بالغلظة مع العدو كما يأمرنا بالتراحم وخفض الجناح فيما بيننا: "أشداء على الكفار رحماء بينهم".
حالة الضعف التي تمر بها الأمة يجب أن تكون استثناءً لا قاعدة؛ وعلى هؤلاء العلماء- قبل غيرهم- الدعوة إلى تجاوز هذا الاستثناء لاستعادة القاعدة - لا أن يغيبوها قرونا ويتعاملوا معها كأنها نص قرآني محكم ناسخ لكل آيات القتال.
المسؤول عن هذا الضعف هم الحكام؛ فأمر البلاد إليهم بعد الله؛ وبالتالي فالواجب الشرعي والأخلاقي يحتم على الشيخ العثيمين وغيره من الرموز الفقهية أن يوجهوا جهود الدعوة والتربية إليهم ويناصحوهم ويبينوا حالهم وحكمهم للأمة إن أصروا على نهجهم التآمري. لكن الحاصل عكس ذلك تماما، فهم يثنون على حكامهم رغم فسادهم وظلمهم وخيانتهم للدين وأهله؛ ويُخضعون الناس لهم خضوعا مطلقا باسم "طاعة ولي الأمر" رغم ارتكابهم لأكثر من ناقضٍ من نواقض الإسلام.
على المتصدرين للفتيا أن يتقوا الله في فتاويهم وأن يضعوا نصب أعينهم مقاصد الشريعة ومصالح الأمة لا مصالح الحكام وأوليائهم من أعداء الإسلام، وألا يغتروا بما يحظون به من قبول وتوقير بين جمهور المسلمين، لأن أغلبهم أغرار سذج ليس بوسعهم تمحيص فتاويهم لتمييز الحق من الباطل. وليتذكروا أنهم ملاقو ربهم الذي سيسألهم عن أمانة التبيين التي حمّلهم بقوله: "لتبيننه للناس ولا تكتمونه".
اللهم هيئ لهذه الأمة أمرا رشدا تعز فيه بعد ذل!
وصلى الله على محمد وآله.
